نواكشوط ( وكالة البلد للأنباء ) المعلم هي في الأصل كلمة جامعة لكل مدرس عَلَّمَ حرفا لطالب علم بغض النظر عن المرحلة التي يدرس.
أما عندنا صارت وسما للهوان و الاحتقار و عدم الالتزام طَبَعَه المجتمع على جبين كل مدرس للمرحلة الابتدائية و وَقَّعَتْ عليه الجهات المعنية.
في كل مرحلة من مراحل دراستي ترك أحد المدرسين بصمة في حياتي شكلت دافعا قويا للنجاح.
الإبتدائية
كانت البداية مع معلمي في القسم السادس الابتدائي،المدرسة رقم 4 في انواذيبو سيدي : محمد محمود ولد العيل،الذي كان يشجعني على كتابة الإنشاء،و لن أنسى ما حييت أول ملاحظة منه على ورقة الاختبار عندما كتب لي بالحرف”تنقصك قراءة الكتب و القصص و المجلات،لك مستقبل دراسي مشرف”.
قد تكون مجرد ملاحظة عابرة منه،لكنها كانت محفزا لي على التفكير و الكتابة في تلك المرحلة.
من يومها بدأت أهوى المطالعة في كل الأوقات،و أعزل نفسي عن العالم و لا أشعر بشيء من حولي قبل أن أنهي القراءة.
الإعدادية
في المرحلة الإعدادية كنا نحفظ الملخصات في مادة التاريخ و الجغرافيا و التربية المدنية،و من تسعفه ذاكرته أكثر يحصل على أعلى النقاط،حتى درَّسَنا الأستاذ : محمد ولد الأمجد في القسم الثالث الإعدادي،و كان موضوع أول اختبار لنا “مقومات الدولة:الشعب،الإقليم،السلطة”.
بدأت كالعادة أكتب الملخص الذي حفظت،و فجأة قال لنا : “لا أريد منكم أن تعيدوا لي بضاعتي،و إنما اكتبوا بأساليبكم الخاصة”.
لم أكن أعرف ساعتها كيف سأقوم بالأمر،لأن الموضوع ليس إنشاء في اللغة العربية أنسجه من خيالي،و أخشى أن أحرّف كلام الأستاذ أو أضيف له أشياء تخرجني عن الموضوع.
في النهاية حللت الموضوع حسب فهمي له محاولة الابتعاد عن عبارات و أسلوب أستاذي.
بعد أسبوع حان موعد تقسيم نتائج الاختبار،ابتسم الأستاذ قائلا:”كم أنا سعيد و فخور أنكم لم تعيدوا لي بضاعتي،و حاولتم جميعا حسب استطاعتكم،لكن هناك تلميذة اسمها مُرَكّب زادتني سعادة و فخرا بتحليلها للموضوع”
يومها شعرت أني كائن مستقل بفكره،حر في تحليلاته،و صرت أحرص على الفهم قبل الحفظ حتى لا أكون نسخة من فِكْر أحد.
أما أستاذ اللغة العربية كوهي Gohi فقد حاول أن يخرجنا من الرتابة و ينمي مواهبنا،و اقترح علينا أن ننشئ مجلة ثقافية اسمها “مفكرة تلميذ” و فعلا نجحت الفكرة،و كنا مجموعة من البنات نكتب المقالات و القصص و المعلومات العامة و الأسئلة الثقافية،و ننشرها في الإعدادية لتعم الفائدة المؤسسة كلها.
الثانوية
اختلفت المرحلة الثانوية عن سابقاتها،لأني تأثرت بأكثر من أستاذ في ثانوية انواذيو1،حيث كان أستاذ الفلسفة الحاج مثالا على الأستاذ المربي الذي يضحي بوقته الخاص من أجل تلاميذه،و كذلك أستاذ اللغة العربية بزيد الذي أحببت معه كتابة المقالات الأدبية و تحليل النصوص،و أستاذ الرياضيات و الفيزياء محمد مكحل مكحل الذي جعلني أعيد النظر في نفوري من المواد العلمية و أتفوق فيها، و غيرهم من الأساتذة…
لكن أكثرهم تأثيرا كان أستاذ التاريخ و الجغرافيا الأستاذ : عبد القادر قَدُّومِي في مرحلة الباكلوريا.
كان من الأساتذة القدماء في الثانوية،وهب حياته للتعليم بكل طاقته،لدرجة أنه كان يتحدى المرض في سبيل الحضور و تقديم الدروس لطلابه.
له أسلوب خاص يرغم الطلاب على المتابعة و الفهم مهما وصلت درجة كسلهم،من أمثلة ذلك: عندما كان يشعر بالملل يتسلل إلينا نتيجة ضغط الدروس،يقول لنا:” الآن سنترك عنا هذا الدرس و سأحكي لكم قصة من(اخروجو)”.
فتتجه كل الأنظار إليه و تصغي له الآذان و تنتبه العقول،و بعد تركيز شيق على(اخروجو)،نكتشف أن هذا الذي يسميه (اخروجو) هو صميم الدرس.
أحببت التاريخ حبا فيه و تمنيت أن أكون يوما مثله في التضحية و الجدية و التفاني و الصبر،و لذلك تخصصت في التاريخ على حساب اللغة العربية التي كانت عشقي الأول.
الجامعة
كانت عالما جديدا بالنسبة لي يختلف عن الثانوية،أول عالم فقدت فيه روح المنافسة و صدمت بالواقع و شعرت بالإحباط،ربما لأني خسرت فيه معركة التميز التي كنت أقود في الثانوية و انتقلت من جناح المهاجمين إلى جناح المدافعين،فكان كل همي النجاح و ليس التفوق.
و مع ذلك كله تأثرت ببعض الأستاذة مثل الدكتور حماه الله ولد السالم،و الدكتور محمد المختار ولد سيدي محمد،و البروفيسور محمدو ولد أمين.
خاصة البروفيسور محمدو الذي رأيت فيه صورة أستاذي في الثانوية عبد القادر قدومي، بينهما قواسم مشتركة في الجدية و التواضع و الأبوة و الأخلاق الإنسانية و العلمية.
في سنتنا الرابعة من الجامعة نظمنا حفل تخرج لقسم التاريخ،فكانت نصائحه حاضرة و حفرت في ذهني و بسببها أحببت التعليم أكثر و لم أهتم أن أكون معلمة أو أستاذة تاريخ،كان الأهم عندي أن أمارس هذه المهنة حتى أكون مثل أساتذتي.
بعد انقطاع عن الدراسة دام 10 سنوات بسبب ظروف العمل في الداخل،التقيت بأستاذي محمدو من جديد في مرحلة الماستر،ربما تغيرت ملامحه قليلا نتيجة عامل الزمن،لكن شخصيته و طريقة تعامله مع الطلاب و جديته لم تتغير،و شرفني بالإشراف على رسالة تخرجي في الماستر،فتعلمت منه المزيد من الناحية الإنسانية قبل العلمية.
مدرسة تكوين المعلمين
لم يبخل الأساتذة المكونون سبيلا في القيام بواجبهم نحونا،و كان من أكثرهم نشاطا أستاذ الرياضيات خطرى الذي لا يجلس إلا نادرا،فتراه يصول و يجول أمام السبورة شارحا الدرس بكل جدية و تمكن من مادته.
و أستاذ اللغة العربية الشيخ الولي رحمه الله الأب و المربي الطيب الملتزم في عمله.
و أستاذ اللغة الفرنسية مرتضى سي الذي كان يعاملنا كصديق و أخ،مع نصائحه القيمة.
أما أستاذنا المفتش أحمدو الأمين الغزالي كان حالة نادرة و مختلفة بالنسبة لنا،أحببناه من أول يوم دخل علينا الفصل، و بكينا عليه في آخر يوم دَرَّسَنا فيه عندما حانت لحظة الوداع.
ترك أثرا في نفسي و في مشواري المهني،و جعلته قدوتي في تعاملي مع التلاميذ،ما زلت حتى اللحظة أنهل من نصائحه كلما ضاقت بي الدروب.
مهما بلغت سأظل مدينة لهؤلاء الأساتذة بالجميل، وسيظلون تاجا على رأسي أفخر و أفتخر بهم، وأقول لهم شكرا من القلب، ودمتم نبراسا و منهلا للعلم.
لهم مني تحية إجلال و تقدير في اليوم العالمي للمعلم.